الوقف والشريعة

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهداه وأحمده سبحانه أن هيأ لنا من الأسباب ما نتنافس فيه إلى أبواب الخير ، مجسدين ما دلّ عليه كتاب الله ودلت عليه سنة الحبيب المصطفى – صلى الله عليه وسلم
وحيثما يؤكد الاسلام على اوجه عديده من الانفاق الخيري وحب الصدقات ويعززها و يساندها بآيات قرآنية من ذلك قوله تعالى( لن تنالوا البر حتى تنفقو مما تحبون), وقوله صلى الله عليه وسلم ( اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاثة : صدقة جارية او علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له ). والصدقة الجارية محمولة على الوقف فهذا اسناد حي من السنة النبوية الشريفة قولاً ودعوه لاستمرارية العمل الخيري وحث على البر الدائم و الصدقة المعطاه حتى بعد الموت.
الوقف والصدقة الجارية هما صوره جميلة واحدة من صور التكافل الاجتماعي التي زرعها الرسول الكريم في نفوس وعقول الصحابة و المسلمين حتى قيل لم يكن احد من اصحاب رسول الله ذا مقدره الا كان له وقف وذلك اتباعاً للرسول وحباُ بالطاعات و الحسنات ورغبه صادقة منهم لتجسيد القول بالعمل كما اسند القول بالفعل الرسول الصادق محمد صلى اللهعليه وسلم عندما جعل الوقف سنه قولية وفعليه حيث كانت له بالمدينة المنوره سبع حيطان قد جعلهن صدقة على بني عبد المطلب و بني هاشم.
والوقف يعد نوع من انواع الصدقات التي يقصد بها التقرب الى الله تعالى وقد ادرك المسلمين على مر الاجيال هذا الاهمية للعمل الوقفي الخيري فكانو يرفدون اموالهم و اقولهم و ممتلكاتهم ببذره الصدقة الجارية عندما يحين لهم ذلك و هم مدركون لهذا الدور المهم للوقف في رفد مسيره التنمية للمجتمع الاسلامي وبناء طبقاته على اسس متماسكه وقويه بذلك شملت صدقاتهم و اوقافهم جميع مجالات الحياه.
الوقف لا يختص بمجال معين فحين يقتنع المسلم في مجال انه الانسب له و الاكثر اجراًُ و ثواباً و فائده للناس له كامل الحريه في وقف ماله في المجال الذي حدده. والكتاب والسنة النبويه لن يحددان هذا الانفاق لمجالات بعينها دون الاخرى فقد اطلق الامر للمسلم في اختيار الانفاق و الموقوفية لكي تتنوع الانشطه و تووزع الخيرات و تشمل حلقات المجتمع المسلم من عقار وتعليم و أنماء ودعم وتكافل ورعاية اسره وصحه عامه و مجالات دعم المساجد و خدمة القران و السنه و اعمال البر و التقوى و الزواج و الرعايه الاجتماعيه و جميع مجالات الحياه.الوقف مستحب عند جمهور العلماء و استندوا في ذلك فيما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : اصاب عمر ارضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله اني اصبت ارضاً بخيبر لم اصب قط مالاً انفس عندي منه فما تأمرني فيها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ( ان شئت حبست اصلها و تصدقت بها غير انه لا يباع اصله ولا يوهب ولا يورث).

الحث على الوقف والأمر به :

إن الشرع الإسلامي الكريم ، والسنة النبوية المطهرة حَثَّتْ على الوقف بجميع مجالاته ، وأمرت به حتى صار الْوَقْفُ سُنَّةً ماضية ، وشريعة باقية في أهل الإسلام حثنا الله – جل وعلا – على ذلك بقوله في محكم كتابه : ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ ([1]) ، وحث عليها نبينا – صلى الله عليه وسلم – بقوله لعمر – رضي الله عنه – لما أصاب أرضًا بخيبر هي أنفس ماله ، قال له : « يا عمر ! إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها » ([2]) .
وقال أيضًا – صلى الله عليه وسلم – فيما رواه مسلم في صحيحه : « إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ » ([3]) .
قال جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – : ” لم يكن أحدٌ من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذا مقدرة إلا وقف ” ([4]) ، وكان الصحابة – رضوان الله عليهم – يتنافسون في الوقف في سبيل الله – جل وعلا – بأنواع البر المختلفة ، وظل هذا في الأمة الإسلامية يتداوله المتأخر عن المتقدم.

أبواب الوقف وتعريفة :
تعريفه :
الوقف لغة الحبس و المنع اصطلاحاً : حبس الاصل و التصرف بالمنفعه . و في تعريف اخر حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح. و في تعريف آخر حبس العين على ملك الواقف و التصدق بالمنفعه.
اركان الوقف
للوقف اركان منها : 1 : الصيغة 2: الواقف 3: الموقوف عليه 4: الموقوف و الصيغة تنقسم الى قسمين صريح وكنايه و ذهب جمهور الفقهاء الى ان الوقف كما ينعقد باللفظ ينعقد بالفعل كأن بنى مسجداً ويأذن للناس في الصلاه فيه او مقبره و يأذن في الدفن فيها فيصبح المسجد و المقبرة وقفاً بالقرينه الداله على اراده الواقف.
شروط الواقف و الموقوف عليه و الموقوف :
ويشترط في الواقف ان يكون اهلاً للتبرع بأن يكون عاقلاً , بالغاً غير محجور عليه , مختار غير مكروه , ويشترط بالموقوف عليه ان تكون ان تكون جهة بر وليست جهة معصية .
ويشترط بالموقوف ان يكون مالاً متقوماً معلوماً ملكاً للواقف وان يكون دوام الانتفاع فيه ليس من المستهلكات.
ويصح وقف غير المسلم اذا التزم بشروط الوقف التي تقدم ذكرها مع اركان الوقف وان لا يقف على وجهه معصية في شريعتنا , من شروط الواقف هو تعيين الجهة التي تدير الوقف و مسؤولة عنه.
من شروط المتولي او جهة الاداره:
1- الاسلام 2- العقل 3- البلوغ 4- العدالة و الكفايه.
واجبات الناظر: من واجبات الجهة المشرفه او مايسمى ( المتولي ) تجاه الوقف هي:
- عمارة الوقف بان يقوم الناظر بأعمال الترميم و الصيانه حفظاً لعين الواقف من الخراب و الهلاك.
- تنفيذ شروط الواقف فلا تجوز مخالفة شروطه او اهمالها و يجب الالتزام بها الا في الاحوال الخاصه.
- الدفاع عن حقوق الوقف في المخاصمات القضائيه رعاية لهذه الحقوق من الضياع.
- أداء حقوق المستحقين في الوقف وعدم تأخيرها الا لضروره كحاجة الوقف الى العماره و الاصلاح او الوفاء بدين فوائد و فضائل الوقف.
1- للوقف أجر و حسنات و فضائل كثيره تمتد الى مرحلة ما بعد الموت وهو ثواب مستمر لقوله صلى الله عليه وسلم ( أن مما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد موته علماً علمه و نشره. وولداً صالحاً تركه و مسجداً بناه او بيتاً لابن السبيل بناه او نهراً اجراه او صدقة اخرجها من ماله في صحته و حياته يلحقه بعد موته).
2- و الوقف كله خير وهو ينبوع جاري مستمر كما جاء عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من احتبس فرساً في سبيل الله ايماناً و احتساباً فأن شبعه وروثه و بوله في ميزانه يوم القيامه حسنات ) رواه احمد و البخاري.
3- والوقف يظلل صاحبه يوم الحشر فعن عقبه بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( كل امروء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس ) رواه احمد.
4- الوقف سبب في زوال الهموم و ادخال السرور وهو حجاب من النار لقوله صلى الله عليه وسلم ( اتقوا النار ولو بشق تمره ) رواه البخاري عن عدي بن حاتم.

تنوعت أبواب الوقف حتى وقف المسلمون في أوائل العصور على مجالات كثيرة ، فوقفوا على الجهاد في سبيل الله – سبحانه وتعالى – بأنواعه ، وعلى المساجد ، والتعليم ، وأنواع البر المختلفة للفقراء والمساكين واليتامى ، والمكتبات ، والمستشفيات ، وحلقات القرآن ، وذلك لأن جهات البر في الوقف لا تنقطع .
مضت أمة الإسلام والوقف فيها عمود فقري في تحقيق أنواع التنمية ، لم تكن الدولة الإسلامية في ماضي الزمان تقوم بكل شيء مما يحتاجه الناس ، بل كان الوقف يقوم بدور كبير في ذلك في الأنواع التي ذكرت سالفًا ، وهذا بَيِّنٌ ظاهر ، لأن الوقف قربة إلى الله – جل وعلا -، لا ينقطع معه عمل صاحبه ،
والوقف سبيل لشفاء المسلم بأذن الله تعالى فقد جاء عن علي بن حسن بن شقيق قال : سمعت عبد الله بن المبارك وقد سأله رجل قالا يا ابا عبد الرحمن ( قرحه خرجت في ركبتي منذ سبع سنين وقد عالجت بأنواع العلاج فلم انتفع؟ قال : اذهب ما نظر موضعاً يحتاج الناس الماء فأحفر هناك بئراً فأني ارجو ان تنبع هناك عين ماء ويمسك عنك الدم ففعل الرجل ذلك فكان البئر سبيل لشفاء المريض ففي هذا اعلاه من الحث لانشاء الابار وبناء المستشفيات و المصانع و المعامل وكل ما يجلب الخير و يسهل على المسلم الحياه فيكون السبب الذي يدر علينا بالنفع و الخير ورضا الله واسباب السعاده في الدنيا و الاخره.
.
الوقف حسنة باقية لأصحابها :
الوقف حسنة باقية لأصحابها :
إن الدولة الإسلامية في قيامها بمهماتها ، وتأمينها للاعتمادات المالية التي تحتاجها خطط التنمية ، ليس معناه عدم فتح المجال لأصحاب الثروات في التقرب إلى الله – جل وعلا – بأنواع الوقف ، لأن الوقف على أبواب البر حسنة باقية لأصحابها .
وليتنا نقتدي بسلفنا الصالح إذ لم يكونوا يعتمدون على الدولة فيما يحتاجه الناس من خدمات ليكون في ذلك امتداد لسُنَّةِ الوقف العظيمة . ونحن سباقون إلى الخير دائمًا ، نرجو أن نكون ممن يقدم على هذا ويتوسع المجال فيه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته